فصل: 3- أبو عيسى علي بن عيسى بن علي الرّمّاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن



.2- نماذج تصويرية من القرآن الكريم:

1- قال الله تعالى: {وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ} [الأنعام: 35].
كان يكبر على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به، فنزلت هذه الآية توضح له: أنه لا جدوى من أن يضيق صدره بكفرهم، وإلا فليجهد نفسه وليبذل قصارى ما في وسعه ليأتيهم بما يحملهم على تصديقه، ويدخل الإيمان في قلوبهم إن استطاع.
هذه المعاني صوّرتها الآية بمشهد ترسم فيه تألمه صلّى الله عليه وسلّم من إعراضهم في صورة شيء يضخم ويكبر حجمه، حتى يثقل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حمله، ويضيق به ذرعا، ويسعى للخلاص منه، كما ترسم فيه الجهد الذي لن يأتي بطائل، بصورة من ينبعث نحو كل جهة في قلق وبحث، ليتخلص من عبء عالق به. وهكذا فقد عبرت عن المعنى الذهني بصورة محسوس متخيل تنبعث فيه الحركة والحياة، مع شيء من التجسيم والتفخيم.
2- قال الله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154].
تقرأ هذه الآية فترى التعبير القرآني يشخص الغضب- وهو أمر معنوي- بصورة حي مسلط على موسى عليه السلام، يدفعه ويحركه، حتى إذا سكت عنه وتركه لشأنه عاد إلى نفسه، فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه.
قال الزمخشري عند الكلام عن هذه الآية: هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك.
3- قال الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7].
ترسم لنا هذه الآية- إعراض الكفرة عن الحق إعراضا كليا، وعدم جدوى دعوتهم إليه- صورة مظلمة صلدة لمنافذ الحق إلى النفس البشرية- وهي القلب والسمع- فلا نلمس بصيص نور أو هداية فيها، وهذه الصورة المظلمة لهذه المنافذ ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة، حركة الختم على القلوب والأسماع، والتغشية على العيون والأبصار.
4- قال الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].
يأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يجهر بالحق الذي جاء به، وإنك لتلمح من النص تلك الصورة التي تجسم ما أمر بتبليغه بمادة قوية صلبة، بينما يجسم الباطل الذي يقابله بمادة هشة سريعة العطب، قابلة للشق والكسر، ثم يعطي المشهد تلك الحركة التي ترسم في المخيلة: أنها ترى حركة تصدع هذه المادة الهشة، وتسمع صوته.
5- قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1- 2].
إنك تقرأ في هذا النص مشهدا حافلا بالصور المعبرة: صورة تلك المرأة التي يشدها إلى رضيعها الحنان والشفقة، وإذا بها ذاهلة عنه، تنظر ولا ترى، وتتحرك ولا تعي. وصورة التي تبذل قصارى جهدها ليثبت الجنين في أحشائها، فإذا بها تسقطه لما انتابها من هول مروع، وصورة الناس الذين لم يعاقروا خمرا ولم يذوقوا مسكرا، وهم يترنحون بخطواتهم، ويتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة من هول الموقف. إنه مشهد مزدحم بتلك الرسوم المتماوجة، تكاد العين تبصره، بينما الخيال يتملاه.

.الفصل الثالث أشهر الذين كتبوا في الإعجاز:

لقد كثر الكاتبون في إعجاز القرآن من العلماء وأئمة البيان قديما وحديثا، فمنهم من تعرّض لهذا الموضوع في غضون الكلام عن علوم القرآن، ومنهم من أفرده بالبحث. ومن أشهر من أفرده بالبحث:

.1- الجاحظ:

عمرو بن بحر، المتوفى سنة (225 هـ). وهو أول من تكلّم عن بعض المباحث المتعلّقة بالإعجاز، وأفرد له كتابا سمّاه (نظم القرآن) وقد تكلّم فيه عما يهيئ للكلام عن الإعجاز في القرآن، وحاول فيه توكيد القول في الفصاحة والكشف عنها، بقدر ما كان معلوما من هذا الفن، وهذا الكتاب لم يصل إلينا، ولعلّه هو ما أشار إليه في كتابه (الحيوان) بقوله: ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن، لتعرف بها ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها في الإيجاز والجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة. فمنها: قوله تعالى حين وصف خمر أهل الجنة: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 19]. وهاتان الكلمتان جمعتا عيوب خمر أهل الدنيا. وقوله عز وجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة: {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33] جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني.

.2- أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي:

المتوفى سنة (306 هـ) وضع كتابه (إعجاز القرآن) وهو أول كتاب وضع لشرح الإعجاز وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف، ولا يبعد أن يكون قد استفاد مما كتبه الجاحظ وبنى عليه، وعلى كل فهذا الكتاب أيضا لم يصل إلينا، وإنما وصل إلينا ما ينبئ عنه في (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني، الذي بلغنا عنه أنه شرح هذا الكتاب شرحا كبيرا سماه (المعتضد) وشرحا آخر أصغر منه.

.3- أبو عيسى علي بن عيسى بن علي الرّمّاني:

النحوي اللغوي المفسر المتوفى سنة (384 هـ) فقد ألّف كتابا في إعجاز القرآن.
وقد طبعت هذا الكتاب دار المعارف بالقاهرة مع رسائل أخرى في هذا الفن، بتحقيق الأستاذ محمد خلف الله أحمد، والدكتور محمد زغلول سلام.

.4- (الإمام الخطّابي):

وممن ألّفوا وكتبوا في الإعجاز أيضا على وجوه مختلفة من البلاغة والكلام وما إليهما الإمام الخطّابي المتوفى سنة (388 هـ). كتب في هذا كتابه (بيان إعجاز القرآن) وهو مطبوع مع رسالة الرّمّاني المذكورة سابقا.

.5- أبو بكر محمد بن الطيب الباقلّاني:

المتوفى سنة (403 هـ). وضع كتابه المشهور (إعجاز القرآن) الذي أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الإعجاز على حدة، وقد جمع فيه كثيرا من المباحث البلاغية القرآنية، وسلك فيه أقرب الوسائل إلى كشف جوانب الإعجاز القرآني وتذوّقه، ووفّى بكثير مما قصد إليه من أمهات المسائل والأصول، حتى عدّوه الكتاب وحده في هذا الفن، قال فيه أبو بكر بن العربي: لم يصنّف مثل كتابه. وهو كتاب مطبوع ومتداول، ومن طبعاته طبعة على هامش (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي، طبع المكتبة التجارية في القاهرة، وله طبعات مستقلة، منها طبعة دار المعارف بالقاهرة، بتحقيق العلامة السيد أحمد صقر- رحمه الله-.

.6- عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني:

المتوفى سنة (471 هـ). وهو واضع أصول البلاغة، وضع كتابه (دلائل الإعجاز) والظاهر أنه بنى على ما أتى به الواسطي، ولكنه فاقه في أنه كان ذوّاقة للأسلوب القرآني، حتى أوشك أن يسبق عصره في بعض لمحاته الموفّقة، التي نفذ بها إلى إدراك الجمال الفني في كتاب الله تعالى. وكان أنفذ حسّا وأكثر توفيقا من كل من كتبوا في هذا الباب على وجه العموم حتى في العصر الحديث.

.7- ومن أشهر من كتب في هذا الموضوع حديثا:

.أ- مصطفى صادق الرافعي (1297- 1356 هـ):

ألّف في هذا كتابه (إعجاز القرآن). وهو- كما قال مؤلفه- كان هذا الكتاب مبحثا من مباحث كتابنا الكبير (تاريخ آداب العرب). ثم أفردناه ليكون كتابا بنفسه تعمّ به المنفعة ويسهل على الناس تناوله. وهو خير ما كتب حديثا في هذا الموضوع، وقد عني فيه مؤلفه عناية خاصّة بالنظم الموسيقى في القرآن، وفيه كلمات رائعة ولمحات موفقة في فهم كتاب الله عز وجل، حتى قال فيه أحد المقرّظين له: يجب على كل مسلم عنده نسخة من القرآن أن تكون عنده نسخة من هذا الكتاب.

.ب- سيد قطب المتوفى سنة (1965 م):

وهو من خير من ألّف وكتب في هذا الباب حديثا، ومؤلفاته من أروع ما كتب، فقد عالج رحمه الله تعالى نواحي خاصة من إعجاز القرآن، فأبدع فيها وأجاد، ومن خير آثاره في ذلك: (التصوير الفني في القرآن) ففيه تخريجات ذكية، واستنباطات سديدة، وأفكار ناضجة، في استلهام الجمال الفني القرآني بأسلوب مشرق جذّاب. ومثله كتاب: (مشاهد يوم القيامة في القرآن). هذا إلى جانب تفسيره: (في ضلال القرآن) وما فيه من لمسات ونفحات تشير إلى عظمة كتاب الله تعالى وسر إعجازه وروعة بيانه.

.الباب الثامن من أساليب القرآن الكريم:

الفصل الأول: القصّة في القرآن.
الفصل الثاني: الأمثال في القرآن.
الفصل الثالث: المجاز في القرآن.
الفصل الرابع: القسم في القرآن.

.الفصل الأول القصة في القرآن الكريم:

.1- تعريف القصة في القرآن:

جاء في المصباح المنير: قصصت الخبر قصّا: حدثت به على وجهه، والاسم القصص، وقد جاء في القرآن الكريم: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] وكذلك: {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ} [يوسف: 111].
والقصة: الأمر والخبر والشأن، جاء في المصباح: والقصّة: الشأن والأمر، يقال: ما قصّتك؟ أي: ما شأنك. وفي القاموس المحيط: والقصّة- بالكسر- الأمر والتي تكتب. وعلى هذا: فما جاء من أخبار قصّها علينا القرآن يمكن أن يطلق عليها لفظ: القصة.

.2- القيمة التاريخية للقصة القرآنية:

ليست القصّة في القرآن كتلك القصص الحرة الطليقة الصادرة من نفوس بشرية، تجعل أمامها أهدافا خاصة، ثم لا تبالي أن تستمدّ ما تقوله من خيال غير صادق، أو أن تعرض حوادث لم تقع، أو تدور حول بطل لا وجود له أصلا، أو تخرج من جدّ إلى هزل، أو تضع الباطل إلى جانب الحق، وجلّ اهتمامها أن تظهر البراعة البيانية لمؤلفها. وإنما القصّة في القرآن حقيقة تاريخية ثابتة، تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاة والأساليب الرائعة. وهذه حقيقة قامت الأدلة عليها بما لا يدع مجالا للشك، وذلك:
أ- أن الأدلة القاطعة قامت على أن القرآن الكريم كلام الله المنزل، وأن محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه قد بلّغ ما أنزل إليه من ربّه، وإذا كان كذلك فكلّ ما جاء في القرآن من خبر فهو صادق، وإذا كان صادقا فلابد أن يكون مطابقا للواقع.
ب- القرآن حجّة الله على خلقه جملة وتفصيلا، وإطلاقا وعموما، وهذا يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحقّ ثم لا ينبّه عليه، فكلّ ما ورد فيه على وجه الإخبار فهو حقّ موافق للواقع.
ج- ما جاء في القرآن من قصص إنما هو كلام ربّ العزة، أوحى به إلى الرسول الأكرم ليكون مأخذ عبرة، أو موضع قدوة، أو مجلاة حكمة، وما كان كذلك لا يكون إلا حقّا من صميم الواقع.
كل هذه الأدلة- وغيرها كثير- تبرهن على أن القصة القرآنية حقيقة تاريخية لا تحوم حولها شبهة. ولذا فقد اعتبرها المتقدّمون والمتأخرون من المؤرخين عمدة رصينة في كلّ ما كتبوه من أبحاث تاريخية، سواء كانت تتعلق بحوادث حاضرة وقت نزوله، أم تتعلّق بحوادث الأمم الغابرة. ولقد كانوا على بيّنة من أمرهم في ذلك إذ إن القرآن أصحّ مصدر عرفه التاريخ في هذا المجال، يشهد بذلك أن الباحثين- على اختلاف مذاهبهم ونحلهم- اعتمدوا القرآن أوّل وثيقة تاريخية تعرف بها أحداث الجزيرة العربية وأوضاعها في صدر الإسلام، وإذا كان كذلك فما هو عمدة في حقبة هو عمدة في كل الحقب. ويشهد لذلك أن التاريخ والمؤرخين عاجزون عن أن يأتوا برواية قريبة أو بعيدة تعارض ما جاء به القرآن من أخبار، وإذا ثبت هذا فلا يلتفت إلى الهراء الذي يطلقه البعض، مما لا تقوم عليه أثارة من دليل عقلي أو نقلي، إلا الحقد على الإسلام والكيد لدعوته.
وبعد فإنا نقول: بعد ما ثبت الدليل على أن القرآن كلام الله المنزل فإن التاريخ هو الذي يستمدّ قوّته من حديث القرآن وأخباره، وليس القرآن يستمدّ قوّته من أخبار التاريخ. وحسبنا في ذلك قول الله تعالى: {ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].